حواء إدريس منحتنا الكثير ولم نمنحها سوى الموت قهرا

 بدأنا حديثنا في المقال السابق عن المرأة التي فقدت عائلتها الصغيرة في وقت مبكر من حياتها، فاضطرت أن تترك تركيا التي لم تكن تعرف سواها إلى مصر وطنها الأكبر والأبقى لها، فعاشت هي وشقيقتها في كنف إبنة عمتها السيدة هدى شعراوي التي كانت لهما أما ثانية، والتي من خلالها سرى في دماء المراهقة الصغيرة معنى العطاء الذي يعوض عن فقد الابوين. أنها حواء إدريس من وهبت حياتها كلها لقضايا المرأة المصرية الاجتماعية، وللعمل التطوعي مع المقاومة المصرية والعربية ومنحت أجمل سنوات عمرها للدفاع عن حق الشعوب في الحرية والتحرر

ناضلت حواء إدريس من خلال الاتحاد النسائي المصري وأيضا عبر جمعيتها " شقيقات الاتحاد النسائي" وكان همها الأول هو رفع وعي النساء للحصول على حقوقهن خصوصا المرأة في الأحياء الشعبية، وبعد وفاة رائدة الحركة النسائية في القرن العشرين هدى شعراوي في العام 1947 حلت حواء محلها كرئيسة للاتحاد النسائي المصري حتى بعد قيام ثورة 1952

ظلت حواء مثلها مثل كل من عايش الثورة تعطي وتثق أن المناخ الثوري الذي كان سائدا حينها لابد وأن ينصف المرأة ويعطيها كافة حقوقها الاجتماعية التي من دونها لا يمكن لثورة أن تستقر .. لكن آمالها قد خابت تماما بمجرد أن نشر قانون الجمعيات الأهلية بكل ما تضمنه من تعديلات ضربت العمل الأهلي في الصميم، وكان من نتائج تطبيقه تجميد نشاط الاتحاد النسائي الذي لم يعد إلى الحياة بعد جهد شاق إلا بقرار من رئيس وطويل لكنه عاد ميتا تقريبا، حيث تحول إلى مجرد كيان خدمي ينحصر نشاطه على الخدمات التعليمية والصحية تحت اسم جمعية هدى شعراوي وليس كاتحاد نسائي، أما حواء إدريس فقد تم تحجيم نشاطها تماما ليقتصر على الإشراف على حضانة تابعة للاتحاد ( سابقا) كانت قد أسستها بنفسها في العام 1946

من المؤكد أن حياتها الخاصة لم يمزقها التوقف عن العمل العام والنضال من أجل حقوقها الإجتماعية فقط، بل أيضا ما مر بها على المستوى الشخصي. فقد كانت حواء تقيم في قصر السيدة هدى شعراوي منذ أن حضرت طفلة من تركيا وحتى العام 1963 الذي فوجئت خلاله بقرار الاستيلاء على القصر

ذلك المكان الذي قضت به كل حياتها ولم يكن لها هي وأحفاد هدى شعراوي سواه، كان قد تقرر نزعه وتحويله إلى فندق سياحي. وعن هذا القرار تقول في مذكرتها التي نشرت مؤخرا: كأن البلد قد ضاق إلا من رقعة الأرض التي كانت تحمل ذلك المنزل، وطلبنا مهلة كي نغادر القصر ومنحنا شهرين ولكن بعد شهر واحد فوجئنا بأحد رجال الشرطة يهددنا بالطرد ما لم نترك المكان في أقرب وقت.. فكان علينا فورا أن نجد مكانا أو نفترش الشارع

في تلك الفترة إنهالت آلاف البرقيات من كل البلاد العربية والآسيوية على الرئيس جمال عبد الناصر عدم هدم المنزل وتحويله إلى متحف يبرز تاريخ النهضة النسائية في مصر، حتى الصحف المصرية كتبت بإفاضة في ذلك الموضوع ولكن كل هذا وكأنه صراخ في واد .. فخرجت حواء من المنزل نتيجة الضغوط قبل المهلة الممنوحة لهم بأكثر من ثلاثة أسابيع، ولم تجد بحوزتها من الأموال بعد تأميم كل شيء سوى ما يكفي لأن تعيش في غرفة متواضعة في إحدى البنسيونات في وسط العاصمة بينما ذهب أحفاد هدى شعراوي إلى منزل إحدى مدرساتهم الأجنبيات التي عرضت هذا عرفانا وتقديرا وحبا لجدتهم

قبل ذلك شهدت حواء على محو اسمها وكل انجازاتها وتاريخها وعطائها والاكتفاء فقط عند ذكر اسمها في الإعلام الموجه حينها بأنها إبنة خال هدى شعراوي وإحدى عضوات الاتحاد فعاشت حتى وفاتها وكأنها لم تكن ولولا كتابتها لمذكراتها في ذلك الفندق والتي سلمتها 1971 إلى مكتبة الجامعة الأمريكية خوفا من ضياعها لما كنا عرفناها .. ولم تنته معاناتها فقد قرر بعد سنوات صاحب البنسيون بيعه للسفر، فلم تجد مكانا سوى النوم في حجرة صغيرة بمقر جمعية هدى شعراوي إلى أن أسست لنفسها مسكنا صغيرا في نفس الجمعية بمساعدة مالية من شقيقتها حورية وتوارت فيها عن الأنظار حتى غابت عنا في ديسمبر 1988

  بحسب مذكرات حواء إدريس فأنها قد ندمت على كل شيء قامت به فقد كتبت: أما عن نفسي إذا عدت مرة أخرى إلى هذه الدنيا فأنا لن اتصرف كما تصرفت في الماضي، لأنني اعلم الان أن الناس لا يهتمون سوى بالتوافه من الأمور ونحن نستحق ما حدث لنا منهم لأننا لو ملأنا الدنيا صراخا قائلين أننا أبطال وطنيون وأننا أتينا بالمعجزات من دون أن نفعل أي شيء، لكنا الآن قد دخلنا التاريخ من أوسع أبوابه، كم يحز في نفسي كإنسانة عدم المبالاة التي ألقاها أنا وزميلاتي، مما يقتل فينا كل حب لخدمة المثل العليا

ثم ختمت مذكراتها بقولها: هناك ذكريات وذكريات، بعضها مر وبعضها باقة جميلة من الأزهار، لكنها كلها قد عصفت بها ريح عاتية وشوهت رونقها وأصبحت غير قادرة حتى على اجتذاب الأنظار

لن أزيد بعد ما سطرته حواء إدريس بنفسها سوى أن أقول لها : وداعا يا سيدة العطاء .. ولا تعليق

Commentaires

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

سيزا نبراوي تتحدى نفسها وجمود مجتمعها(3)

وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت

الجزء الثاني _ منيرة ثابت المرأة التي فقدت بصرها كي ترى النساء النور