حواء ادريس سيدة العطاء في قضايا المرأة الاجتماعية

هناك من دون شك في بلادنا ظاهرة لا يمكن ان يتجاهلها  أي مراقب لمشهد الحركة النسائية العربية بشكل عام والمصرية خاصة، ألا وهي ممارسة كل أنواع الاضطهاد والاستقواء على النساء خاصة الرموز والرائدات منهن، وتاريخ الحركة النسائية في مصر لخير شاهد على تعرضهن لمرض الاستقواء الذي مورس عليهم وبلغ مداه حتى أودى ببعضهن إلى الموت قهرا أو إلى الانتحار يأسا

يمكن إحالة الأمر كله إلى المصادفة أو إلى أن كل رائدة من رائدات هذه الحركة لها مسار خاص بها وأن التعميم غير جائز. الحقيقة أننا مهما قلبنا الأمر على أكثر من وجه لن نصل إلا لنتيجة واحدة مفادها أن الاجحاف قد لاحق غالبيتهن، وان تعمدا واضحا كان وراء إظهار عدد قليل جدا منهن وتضخيم حضورهن ليتم الاكتفاء بهن لتزيين الواجهة. الثابت أن التوثيق التاريخي قد تغافل عن بعضهن وأزال أخريات واختزل مسيرة من لهن حق تاريخي لا جدال فيه بتصويرهن على اعتبارهن مجرد ظل لأخريات قد تم إبرازهن، فتذكر اسمائهن في سطر وأحيانا أقل، لتبدو الحركة النسائية المصرية وكأنها مواقف فردية وليست تيارا فاعلا له جذوره ولا يمكن الفصل بينه وبين حركة التنوير المجتمعي ككل

واحدة في مقدمة اللواتي قد لحق بهن هذا الظلم هي "حواء إدريس" التي يشار إليها دائما فقط على اعتبارها ابنة خال هدى شعراوي وإحدى عضوات الاتحاد النسائي المصري الذي أسسته شعراوي في العام 1923، فيما حواء إدريس هي مسيرة عطاء كبيرة وإحدى رائدات هذه الحركة ووحدها يكتب فيها عشرات المقالات 

كتبت عنها سنية شعراوي حفيدة هدى شعراوي : كانت حواء إدريس كالجندي المجهول في محيط الحركة النسائية، فقد كانت تتفانى في خدمة التنمية والنهوض بمستوى المرأة كما تفعل الراهبة تعطي بلا حدود ولا تكترث لنفسها

ولدت حواء إدريس في العام 1909 من عائلة من بلاد القوقاز، جدها لأمها أمير لإحدى القبائل قتل في موقعة القرم في مواجهة الروس، والدها هو أحمد أدريس وعمتها إقبال هانم التي تزوجت في مصر من محمد باشا المصري لذا فأن أبنة عمتها هي رائدة الحركة النسائية المصرية هدى شعراوي. عاشت حواء طفولتها المبكرة في تركيا، وبعد وفاة أبيها وعمها انتقلت برفقة شقيقتها حورية إلى القاهرة لتعيشان في كفالة ومنزل ابنتة عمتهما، التي وصفتها حواء في مذكراتها بقولها: وجدنا انا وأختي في هدى شعراوي أما ثانية خصتنا ببالغ عنايتها ورعايتها، لم تدخر وسعا في عمل ما فيه راحتنا وسعادتنا. هكذا حاولت حواء أن تستمر بها الحياة بعد أن فقدت هي وأختها أسرتها وأغلى من لها في هذا العالم، لتحول الفقدان للأهل إلى مساحة عطاء للمرأة كانت وستظل مساحة خاصة بها وحدها

التحقت حواء واختها حورية بالقسم الداخلي بالكلية الأمريكية للبنات حتى أتمت الدراسة الاعدادية، ثم انتقلت في المرحلة الثانوية الى كلية البنات، لكنها لم تكمل دراستها الجامعية، يقال لأسباب صحية ويقال لأنها كانت قد انخرطت في العمل الأهلي من خلال الاتحاد النسائي المصري ووجدت فيه ضآلتها، فبحسب ما جاء في مذكراتها كان هذا العمل قد امتزج بروحي ودمي فسرت في تياره، وأنا لم اتجاوز الثانية عشر من عمري، وقد يكون هذا هو الأرجح فقد كانت لحواء، بحسب ما كتبته الاخريات في مذكراتهن، مساحة خاصة تتفانى فيها من أجل النهوض بوعي المرأة وتعريفها بحقوقها، لم تكن صدامية الطباع لكنها كانت الأبرز في الندوات والمحافل الدولية تعرف وتطالب بحقوق المرأة. هذا النشاط هو ما جعلها تلفت نظر  الزعيم نهرو، رئيس الهند حينها، بعدما استمع إليها في إحد المؤتمرات في الهند وأعجب بحماسها وصدقها في طرح قضايا المرأة وحرية الشعوب، فما كان منه إلا أن دعاها إلى مأدبة عشاء تكريما لها

تطورت علاقة بحواء بالاتحاد النسائي لكنها لم تكن يوما ظلا لأحد، فأصبحت مسؤولة عن نشاطه الثقافي، كما قامت بتمثيله في عدد كبير من المؤتمرات الإقليمية في تركيا والهند والعراق والسودان ولبنان وغيرهم، مدافعة عن حقوق المرأة وأيضا عن حق الشعوب في التحرر ومقاومة الاستعمار بمشاركة النساء. كانت أكثرهن نجاحا في الأعمال التطوعية التي تؤكد أن المرأة قادرة على القول والفعل،  فشاركت في بعثة الهلال الأحمر المصرية التي سافرت إلى  سوريا في 1945 عقب قصف الفرنسيين لعاصمتها دمشق، وكانت الداعمة الأولى للمقاومة الشعبية المصرية ضد الاحتلال الانجليزي ولم تنس قضايا المرأة الاجتماعية يوما

وقبل ذلك كله كانت قد أسست جمعية موازية للاتحاد النسائي باسم (شقيقات الاتحاد النسائي) في العام 1933 وقد ضمت في عضوياتها أسماء صارت لامعة وشهيرة فيما بعد مثل أمينة السعيد وسهير القلماوي ومنيرة عاصم وغيرهن، وكان من أهم أنشطة تلك الجمعية هو النهوض بوعي المرأة في الأحياء الشعبية ومساعدة الأسر الفقيرة

تروي حواء في مذكراتها كيف حاربتها الصحافة آنذاك وتقول: لن انسى أبدا ما استقبلتنا به الصحافة في ذلك الوقت، إذ انهمرت علينا سلاسل السخرية الموجعة حتى أن أحدهم كتب يقول: ألا ترين صغيرتي أنه من الأوفق لك في الوقت الحاضر أن تكتفي ب ( البزازة)؟ ذلك في إشارة واضحة لصغر سنها، وعلى الرغم من كل ما واجهته لم تتوقف بل زادها الرفض لمطالبها تصميما

 فأظهرت قوتها وإيمانها بحق المرأة في الحصول على حقوقها كونها نصف المجتمع الذي لا يجوز أن يعاقب طبقا لجنسه. وهو ما أكدت عليه بعدها في حوار لها بجريدة أخبار اليوم حينما صرحت بأن اهم قضاياها المجتمعية التي لن تفرط فيها أبدا هي قضية الزواج والعمل، مشددة على ضرورة منع التعدد وحق تطليق المرأة نفسها، وحقها الكامل في التعليم وأن يكون التعليم مختلطا في جميع المراحل، وعلى حقها في العمل بأجور متساوية. لكنها في الحوار نفسه قالت أن الوقت لم يحن لدخول المرأة المصرية للبرلمان وهو الرأي الذي كانت قد اتفقت عليه مجموعة الاتحاد النسائي المصري، فيما كانت الكاتبة والمناضلة منيرة ثابت تنادي بهذا الحق منذ عشرينات القرن لتلحق بها رائدة الحراك النسوي درية شفيق وتجسده على الأرض ليغدو حقا أساسيا من حقوق المرأة السياسية في بلادنا حتى الآن

استمرت هدى شعراوي في دعم مسيرة حواء ادريس حتى بعد انفصالها وتأسيسها لجمعيتها وظلت الداعمة الاولى لها حتى وفاتها في العام 1947، في المقابل استمرت حواء في عضوية مجلس إدارة الاتحاد إلى جانب نشاط جمعيتها إلى أن تم تصعيدها إلى رئاسته بعد وفاة هدى شعراوي، لتستمر في النضال من أجل حقوق المرأة الاجتماعية كافة، إلى أن قامت ثورة 1952 التي شكلت مفترقا للطرق في حياة سيدة العطاء في قضايا المرأة حواء إدريس، وللحديث بقية

  


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

سيزا نبراوي تتحدى نفسها وجمود مجتمعها(3)

وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت

ولدت زينب لتبدأ سيزا نضالها لتحرير المرأة(1)